فصل: تنبيه ينبغي الوقوف عليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تنبيه ينبغي الوقوف عليه:

قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وقوله في سورة يونس: {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما أعلم فيه نزاعًا بين الناس سلفًا وخلفًا، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره: فإن قيل: قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يتناول سورة الكوثر وسورة العصر، و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن. فإن قلتم: إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين: قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزًا، فعلى التقديرين يحصل المعجز، هذا لفظه بحروفه. والصواب: أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة.
قال الشافعي، رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} سورة العصر. وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليَّ مثلها، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبْر يا وبْر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر فقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم إنك تكذب. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحة ما جاء به، فقال: {وإن كنتم} معشر المعاندين للرسول، الرادين دعوته، الزاعمين كذبه في شك واشتباه، مما نزلنا على عبدنا، هل هو حق أو غيره؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون، فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم، فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة، والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله، فهو كما زعمتم، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى، ودليل واضح جلي على صدقه وصدق ما جاء به، فيتعين عليكم اتباعه، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة، أن كانت وقودها الناس والحجارة، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.
وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه، أن يأتي بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان، ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء، ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} إلى آخره، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: هو الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه، فهذا لا يمكن رجوعه، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له، لم يتركه عن جهل، فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه، فهذا في الغالب أنه لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم، قيامه بالعبودية، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وفي مقام الإنزال، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}.
وفي قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ونحوها من الآيات، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار، لأنه قال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها، لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه، وهو الكفر، وأنواع المعاصي على اختلافها. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ}.
قال ابن عرفة: لما أمرهم بالعبادة على لسان نبيه المقارنة للبرهان الدال على صدقه وهو القرآن وعجزهم بأنّهم إن لم يفعلوا ذلك فليأتوا بسورة من مثله قال هنا: فإن عجزتم ولم تقدروا على معارضته فاعلموا أن الرسول صادق فيجب عليكم الإيمان به ثم قال: {فاتقوا النار} فأقام مقام السبب الذي هو منه في ثالث رتبة أي: فإن لم تفعلوا تبين لكم أن ذلك معجزة وإذا تبين أنه معجزة دل ذلك على صدقه فمهما أخبر به، فيكون سببا في الإيمان به وفي تصديقه والإيمان به سبب في اتّقاء النار.
قال الزّمخشري: فإن قلت: امتناع معارضتهم القرآن واجب هلا قيل: فإذا لم تفعلوا؟
وأجاب بوجهين: الأول أنه ساق ذلك على حسب نيتهم وقصدهم وأنهم كانوا يزعمون أنهم يقدرون على معارضته.
الثاني: أنّه تهكّم بهم كقول الفارس النحرير لمن دونه: إن غلبتك في كذا.
قال ابن عرفة: وأنكر الشيخ أبو علي عمر بن خليل السّكوني هذا الإطلاق لئلا يلزم عليه أن يسمي الله تعالى متهكما، وأسماؤه تعالى توقيفية.
وكان بعضهم يرد عليه بإجماع المسلمين على ورود المجاز في القرآن مع امتناع أن يقال فيه سبحانه وتعالى متجوز.
فقال ابن عرفة: والصحيح أن التهكّم يطلق على معنيين: تقول تارة هذه القصيدة التي هي للمعري: هو فيها متهكم وتارة تقول فهمنا منها التهكم، ولا يلزم منه أن يكون المعري هو فيها متهكم بل التهكم باعتبار ما فهمنا نحن وعلى الأول يكون هو متهكما، فإطلاق التهكم على البارء جلّ وعلا بالمعنى الأول باطلا قطعا، وبالثاني حق.
قال ابن عرفة: ويظهر لي عن السؤال جواب ثالث، وهو أن هذا على سبيل التعظيم بالمخاطبات، وهو أن يظهر أحد الخصمين لآخر أنه مغلوب، أو شاك في الغلبة أو متوقع لها ولا يريه أنه محقق أنه الغالب له لئلا يتحرز منه أو يرجع عن مخاصمته بدليل قوله تعالى: {وَلَن تَفْعَلُواْ}.
قال القرطبي: معناه فإنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ في الماضي وَلَن تَفْعَلُواْ في المستقبل.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم تخلص الفعل للماضي وإن تخلصه للاستقبال وهما متباينان؟
فالجواب: أنّ {لم} خلصت الفعل {ولن} دخلت على الجملة فخلصتها.
قال بعض الناس: فإذا قلت: إن لم يقم زيد قام عمرو فلم يقم مستقبل باعتبار ما مضى.
والمعنى أن يقدر في المستقبل أنه لم يقم زيد فيما مضى فقد قام عمرو.
ونظيره ما أجابوا به في قوله تعالى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأن الشرط يخلص الفعل للاستقبال والمعنى يدل على أنه ماض.
قالوا: المراد أن يقول في المستقبل إني إن قلته فيما مضى فقد عملته فكذلك هنا.
فإن قلت: لم عدلوا في قولك: إن قام زيد قام عمرو إلى لفظ الماضى والأصل أن يعبروا بالمستقبل لفظا ومعنى؟
قلت: إما لتحقيق قيامه في المستقبل حتى كأنه واقع أو التفاؤل بذلك أو للتنبيه على أن قيامه محبوب مراد وقوعه.
فإن قلت: كان يلزمهم أن يعبروا بإذا موضع إن؟
قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقق وقوعه وإن تدخل على الممكن وقوعه، وعلى المحال مثل {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} فإن أعم من أن تكون في هذا وفي هذا.
قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي حجارة الكبريت.
قال ابن عرفة: معناه مقارنة الناس لها أي هي نار شديدة دائمة حالة حلول أجسامهم الرطبة فيها كما لو كان فيها فإنها لا تزال أبدا تشتعل كاشتعال النّار في الوقود.
وقال الزمخشري: عرف النار هنا ونكرها في سورة التحريم لأن تلك الآية نزلت أولا بمكة وهذه نزلت بالمدينة بعد ما عرفوا النار وتقررت عندهم.
قيل لابن عرفة: هذا مردود بما تقدم للزمخشري عن ابراهيم بن علقمة ولابن عطية عن مجاهد أن كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو مكي ويا أيها الذين آمنوا فهو مدني وصوب ابن عطية قوله في يا أيَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بخلاف قوله في أيها الناس.
فقال ابن عرفة: قال ابن عطية: أن سورة التحريم مدنية بإجماع لكن يقول الزّمخشري إن تلك الآية منها فقط نزلت بمكة، فيكون دليلا على تقدم نزولها على هذه وهو المراد. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} يعني فيما مضى {وَلَن تَفْعَلُواْ} أي تُطيقوا ذلك فيما يأتي.
والوقف على هذا على {صادقين} تامَّ.
وقال جماعة من المفسرين: معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار.
فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على {صادقين}.
فإن قيل: كيف دخلت {إن} على {لم} ولا يدخل عامل على عامل؟ فالجواب أن {إن} هاهنا غير عاملة في اللفظ، فدخلت على {لم} كما تدخل على الماضي؛ لأنها لا تعمل في {لم} كما لا تعمل في الماضي؛ فمعنى إن لم تفعلوا: إن تركتم الفعل.
قوله تعالى: {وَلَن تَفْعَلُواْ} نصب بلن، ومن العرب من يجزم بها، ذكره أبو عبيدة؛ ومنه بيت النابغة:
فلن أُعَرِّضْ أبَيْتَ اللّعْنَ بالصَّفَدِ

وفي حديث ابن عمر حين ذُهب به إلى النار في منامه: فقيل لي لن تُرَعْ.
هذا على تلك اللغة.
وفي قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها.
وقال ابن كَيْسان: {ولن تفعلوا} توقيفًا لهم على أنه الحق، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب، وأنه مفترًى وأنه سحر وأنه شِعر، وأنه أساطير الأوّلين؛ وهم يدّعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله.
وقوله: {فاتقوا النار} جواب {فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا}؛ أي اتقوا النار بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى.
وقد تقدّم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها.
ويقال: إن لغة تميم وأسد {فتَقُوا النار}.
وحكى سيبويه: تَقَى يَتْقِي، مثل قَضَى يقضي.
{النارَ} مفعولة.
{التي} من نعتها.
وفيها ثلاث لغات: التي واللِّتِ بكسر التاء واللّتْ بإسكانها.
وهي اسم مُبْهَم للمؤنث وهي معرفة؛ ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير، ولا تتم إلا بصلة.
وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضًا: اللّتانِ واللَّتا بحذف النون واللّتانِّ بتشديد النون.
وفي جمعها خمس لغات: اللاَّتِي، وهي لغة القرآن.
واللاّتِ بكسر التاء بلا ياء.
واللّواتِي.
واللّواتِ بلا ياء؛ وأنشد أبو عبيدة:
من اللّواتِي واللّتي والّلاتِي ** زعمن أن قد كَبِرتْ لِداتي

واللّوا بإسقاط التاء؛ هذا ما حكاه الجوهري.
وزاد ابن الشّجري: اللاّئي بالهمز وإثبات الياء.
واللاّءِ بكسر الهمزة وحذف الياء.
واللاّ بحذف الهمزة.
فإن جمعت الجمع قلت في اللاّتي: اللّواتي.
وفي الّلائي: اللوائي.
قال الجوهري: وتصغير الّتي اللُّتَيّا بالفتح والتشديد؛ قال الراجز:
بعد اللُّتَيّا واللَّتَيّا والّتِي ** إذا عَلَتْهَا أنفسٌ تَرَدَّتِ

وبعض الشعراء أدخل على {التي} حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله، وحده.
فكأنه شبّهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها؛ وقال:
من أجلِكِ يا الّتي تَيَّمْتِ قلبي ** وأنت بخيلةٌ بالوُدّ عنّي

ويقال: وقع فلان في اللّتَيَا والّتِي؛ وهما اسمان من أسماء الدّاهية.
والوقود بالفتح: الحطب.
وبالضم: التوقد.
و{الناس} عموم، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبًا لها؛ أجارنا الله منها.
{والحجارة} هي حجارة الكبريت الأسود عن ابن مسعود والفرّاء وخُصّت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدّة الالتصاق بالأبدان، قوّة حَرِّها إذا حَمِيَت.
وليس في قوله تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة؛ بدليل ما ذكره في غير موضع من كَوْن الجنّ والشياطين فيها.
وقيل: المراد بالحجارة الأصنام؛ لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أي حطب جهنم.
وعليه فتكون الحجارة والناس وقودًا للنار؛ وذكر ذلك تعظيمًا للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس.
وعلى التأويل الأوّل يكونون معذّبين بالنار والحجارة.
وقد جاء الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلُّ مُؤْذٍ في النار» وفي تأويله وجهان: أحدهما: أن كل من آذى الناس في الدنيا عذّبه الله في الآخرة بالنار.
الثاني: أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار مُعَدٌّ لعقوبة أهل النار.
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصّةً. والله أعلم.
روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يَحُوطُك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: «نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضَحْضَاح في رواية ولولا أنا لكان في الدّرِك الأسفل من النار» {وقُودُهَا} مبتدأ.
{النّاسُ} خبره.
{والحجارةُ} عطف عليهم.
وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مُصَرِّف: {وُقُودها} بضم الواو.
وقرأ عُبيد بن عُمير: {وَقِيدُها الناسُ}.
قال الكسائي والأخفش: الوقود بفتح الواو: الحطب، وبالضم: الفعل؛ يقال: وَقَدتِ النارُ تَقِدُ وُقُودًا بالضم ووَقَدًا وقِدَةً وَوَقِيدًا ووَقْدًا ووَقَدانًا، أي تَوَقّدت.
وأوْقدتها أنا واستوقدتها أيضًا.
والاتقاد مثلُ التَّوَقُّد، والموضع مَوْقِد؛ مثلُ مجلِس، والنار مُوَقدة.
والوَقْدة: شدّة الحرّ، وهي عشرة أيام أو نصف شهر.
قال النحاس: يجب على هذا ألا يُقرأ إلا {وقُودها} بفتح الواو لأن المعنى حطبها؛ إلا أن الأخفش قال: وحُكي أن بعض العرب يجعل الوَقود والوُقود بمعنى الحطب والمصدر.
قال النحاس: وذهب إلى أن الأوّل أكثر، قال: كما أن الوَضُوء الماءُ، والوُضُوء المصدر.
قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك؛ بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة؛ على ما يأتي.
وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة؛ خلافًا للمبتدعة في قولهم: إنها لم تخلق حتى الآن.
وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البَلُّوطِي الأندلسي.
روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمِع وَجْبَةً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تدرون ما هذا» قال قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: «هذا حَجَر رُمِيَ به في النار منذ سبعين خَرِيفًا فهو يَهْوِي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها» وروى البخاريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه أنتِ عذابي أعذِّب بِك من أشاء وقال لهذه أنتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها» وأخرجه مسلم بمعناه.
يقال: احتجت بمعنى تحتج؛ للحديث المتقدم حديث ابن مسعود، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أُرِيهما في صلاة الكسوف، ورآهما أيضًا في إسرائه ودخل الجنة؛ فلا معنى لما خالف ذلك. وبالله التوفيق.
و{أُعِدَّتْ} يجوز أن يكون حالًا للنار على معنى مُعَدّة، وأضمرت معه قد؛ كما قال: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 9] فمعناه قد حصرت صدورهم؛ فمع حَصِرت قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد؛ فعلى هذا لا يتم الوقف على الحجارة.
ويجوز أن يكون كلامًا منقطعًا عما قبله؛ كما قال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23].
وقال السّجِسْتَاني: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} من صلة الّتِي؛ كما قال في آل عمران: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].
ابن الأنبارِيّ: وهذا غَلَط؛ لأن التي في سورة البقرة قد وُصلت بقوله: {وَقُودُهَا الناس} فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية؛ وفي آل عمران ليس لها صلة غير {أُعِدّتْ}. اهـ.